تمضي عقود من الزمن, والسوريون لا يزالون على حالهم المزرية مبعثرين, بين وطن أحكم رقابته على فكرهم, واعصب عيونهم عن رؤية العالم الآخر بكل تناقضاته وسجالاته, ومنفى أنساهم الأرض التي ولدوا عليها, وسواء كان هذا المنفى ايجابياً بتعريفه إياهم أصول الحياة وكيف يصير فيها الإنسان مواطناً حياً, له من الحقوق ما لغيره,أم سلبياً زاد عليهم النوائب أكثر مما عايشوه ووجدوه في سورية, التي شاء القدر أن تحذف من أذهانهم بعد أن حولها رعاتها إلى أرض يباب,لا يطمع فيها جائع أو تائه, ربما لأنها ضاقت بهم ذرعاً فنفتهم, أو هم من ضاق منها ذرعاً فنفوها من قلوبهم, مَن ينفي مَن ? ولماذا كل هذا النفي? قسرياً كان أم طوعياً .الجواب على هذا التساؤل واسع, ولا يتوقف عند حد معين, لكن الجانب المثير للقلق أنه كيف بالإمكان أن يشطب الإنسان أياً كان جنسه, وطنه من ذاكرته بهذه السهولة? الأكيد أن البشر على اختلاف طبائعهم وأعراقهم, محكومون بقدر كبير من العواطف والمشاعر, تجاه ذويهم وأرضهم وكل ما يمت بصلة لماضيهم السحيق. إن السوريين حقيقةً باتوا أشبه بأسراب البط المهاجرة لا تتوقف على مدار فصول السنة, بحثاً عن واقع أفضل ينجيهم من شرين مستطيرين, الأول أنهم انسلخوا من محيطهم العربي لشعورهم بأنهم أصبحوا عبئاً ثقيلاً على أشقائهم في لبنان والعراق, وقد لا يكونون راضين عما يحدث لكنهم مدركون أنهم أرغموا على الانسلاخ في لعبة إقليمية, ليسوا فيها سوى أحرف تتبدل هوياتهم بتبدل الأحرف نفسها, على أن هدف هذه اللعبة التي تسترهن البلاد وتأسر العباد في أجواء ملئها الفقر والحرمان من أبسط معاني الحياة, بقاء الأنظمة. الثاني لإيجاد ما يروي ظمأهم, وفي الوقت نفسه هرباً من بطش الطبيعة الاستبدادية وقوانينها المشرعة لصالح أسيادها "المتجذرين" رعباً وهلعاً في نفوسهم, إنه هروب مفاجئ لم تشهده سورية قبلاً عبر تاريخها الطويل, المتعارف عليه أن العالم في السابق يحدد وجهته قاصداً سورية.اليوم وفي ظل أجواء التحالفات المعكوسة, انقلبت المعادلات والموازين رأساً على عقب, وتحول السوريون من مقصود إليهم إلى قاصدين صوب عالم آخر, وأرض أخرى.بعض السوريين فقد معنى الوطن, نتيجة ذوبانه في المغتربات, كونها أضحت تشكل الملاذ الآمن له من سنوات الشقاء الأولى, فكلمة وطن تذكره بالشقاء, لذا تجده دائماً يهرب من لفظة وطن, البعض الآخر خرج طوعاً بمحض إرادته, نتيجةً لسأمه من واقع التعقيدات اليومية غير المنتهية, ولا يفكر بالعودة إلى دياره, كونه أصبح محكوماً بحواجز وحدود لا ينبغي تخطيها, حدود فرضها عليه الوطن الجديد, كثمن لخروجه من الوطن القديم, فإن عاد إليه لاقى مصيراً مجهولاً, وأن بقي في وطنه الجديد بقيت حدود الوطن القديم ترتسم في مخيلته .الصمت الطويل صار جزءاً من ثقافة السوريين, لقد وجدوا أنفسهم أمام مشكلة عالقة لا حدود لها, يصعب حلها, مع ذلك يستحيل القطع بأن لا حلول لها, فثمة من يعتقد أن الحل يكمن بتحطيم الحدود المادية التي صنعتها اتفاقات الدول ومعاهداتها, وثمة من يرى أن الحدود المعنوية (النفسية) هي التي ينبغي تحطيمها أولاً, من دون تحطيم النفس, وإلا فقدنا الشعور ودخلنا في اللا شعور, ولأن الحدود المعنوية لا ضابط ولا رقيب عليها إلا ضمير الإنسان, وبالتالي يسهل تحطيمها, نتساءل هنا: ماذا كانت النتيجة عندما حاول تيار التغيير الوطني المسالم ويتقدمهم أنور البني وميشيل كيلو تفكيكها فقط وليس تحطيمها, الحجر عليهم وإبعادهم عن الوطن الذي حلموا به, بسبب وهنهم لنفسية الأمة !, أين هي هذه الأمة ? ما صفاتها وحدوها ? من أفرادها وحكامها ? فإن وجدت هذه (الأمة), وقتها نستطيع القول إن هاجس القلق والخوف من المجهول, الذي طالما لاحق السوريين طويلاً في منفاهم, بدأ يتحطم تدريجياً, وغير ذلك يعني استمرار الصمت بحدوده المقفلة .
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق